فصل: تفسير الآية رقم (12)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


الجزء الخامس عشر

سورة الإسراء

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

الافتتاح بكلمة التسبيح من دون سبق كلام مُتضمّننٍ ما يَجب تنزيه الله عنه يؤذن بأن خبراً عجيباً يستقبله السامعون دالاً على عظيم القدرة من المتكلم ورفيع منزلة المتحدث عنه‏.‏

فإن جملة التسبيح في الكلام الذي لم يقع فيه ما يوهم تشبيهاً أو تنقيصاً لا يليقان بجلال الله تعالى مثل ‏{‏سبحان ربك رب العزة عما يصفون‏}‏ ‏[‏الصافّات‏:‏ 180‏]‏ يتعين أن تكون مستعملة في أكثر من التنزيه، وذلك هو التعجيب من الخبر المتحدث به كقوله ‏{‏قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 16‏]‏، وقول الأعشى‏:‏

قد قلتُ لما جاءني فخرُه *** سُبْحَان من علقمَةَ الفاخِرِ

ولما كان هذا الكلام من جانب الله تعالى والتسبيح صادراً منه كان المعنى تعجيب السامعين، لأن التعجب مستحيلة حقيقته على الله لا لأن ذلك لا يلتفت إليه في محامل الكلام البليغ لإمكان الرجوع إلى التمثيل، مثل مجيء الرجاء في كلامه تعالى نحو ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏، بل لأنه لا يستقيم تعجب المتكلم من فعل نفسه، فيكون معنى التعجيب فيه من قبيل قولهم أتعجب من قول فلان كيْت وكيْت‏.‏

ووجه هذا الاستعمال أن الأصل أن يكون التسبيح عند ظهور ما يدل على إبطال ما لا يليق بالله تعالى‏.‏ ولما كان ظهور ما يدل على عظيم القدرة مزيلاً للشك في قدرة الله وللإشراك به كان من شأنه أن يُنطق المتأمل بتسبيح الله تعالى، أي تنزيهه عن العجز‏.‏

وأصل صيغ التسبيح هو كلمة سبحان الله‏}‏ التي نُحت منها السبحلة‏.‏ ووقع التصرف في صيغها بالإضمار نحو سبحانَك وسبحانه، وبالموصول نحو ‏{‏سبحان الذي خلق الأزواج كلها‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 36‏]‏ ومنه هذه الآية‏.‏

والتعبير عن الذات العلية بطريق الموصول دون الاسم العلم للتنبيه على ما تفيده صلة الموصول من الإيماء إلى وجه هذا التعجيب والتنويه وسببه، وهو ذلك الحادث العظيم والعناية الكبرى‏.‏ ويفيد أن حديث الإسراء أمر فَشا بين القوم، فقد آمن به المسلمون وأكبَره المشركون‏.‏

وفي ذلك إدماج لرفعة قدر محمد وإثباتُ أنه رسول من الله، وأنه أوتي من دلائل صدق دعوته ما لا قِبل لهم بإنكاره، فقد كان إسراؤه إطلاعاً له على غائب من الأرض، وهو أفضل مكان بعد المسجد الحرام‏.‏

وأسرى‏}‏ لغة في سَرَى، بمعنى سار في الليل، فالهمزة هنا ليست للتعدية لأن التعدية حاصلة بالباء، بل أسرى فعل مفتح بالهمزة مرادف سَرى، وهو مثل أبان المرادف بَان، ومثل أنهج الثوبُ بمعنى نَهَجَ أي بلِيَ، ف ‏{‏أسرى بعبده‏}‏ بمنزلة ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وللمبرد والسهيلي نكتة في التفرقة بين التعدية بالهمزة والتعدية بالباء بأن الثانية أبلغ لأنها في أصل الوضع تقتضي مشاركة الفاعل المفعولَ في الفعل، فأصل ‏(‏ذهب به‏)‏ أنه استصحبه، كما قال تعالى

‏{‏وسار بأهله‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقالت العرب أشبعهم شتماً، ورَاحوا بالإبل‏.‏ وفي هذا لطيفة تناسب المقام هنا إذ قال أسرى بعبده‏}‏ دون سرّى بعبْدَه، وهي التلويح إلى أن الله تعالى كان مع رسوله في إسرائه بعنايتهِ وتوفيقه، كما قال تعالى ‏{‏فإنك بأعيننا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏، وقال‏:‏ إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏‏.‏

فالمعنى‏:‏ الذي جعل عبده مُسرياً، أي سارياً، وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأسر بأهلك بقطع من الليل‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 81‏]‏‏.‏

وإذ قد كان السُرى خاصاً بسير الليل كان قوله‏:‏ ليلاً‏}‏ إشارة إلى أن السير به إلى المسجد الأقصى كان في جُزء ليلة، وإلا لم يَكن ذكره إلا تأكيداً، على أن الإفادة كما يقولون خير من الإعادة‏.‏

وفي ذلك إيماء إلى أنه أسراء خارق للعادة لقطع المسافة التي بين مبدأ السير ونهايته في بعض ليلة، وأيضاً ليتوسل بذكر الليل إلى تنكيره المفيد للتعظيم‏.‏

فتنكير ‏{‏ليلاً‏}‏ للتعظيم، بقرينة الاعتناء بذكره مع علمه من فعل ‏{‏أسرى‏}‏، وبقرينة عدم تعريفه، أي هو ليل عظيم باعتبار جعله زمناً لذلك السرى العظيم، فقام التنكير هنا مقام ما يدل على التعظيم‏.‏ ألا ترى كيف احْتيج إلى الدلالة على التعظيم بصيغة خاصة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 1 2‏]‏ إذ وقعت ليلة القدر غير منكرة‏.‏

و ‏(‏عَبْد‏)‏ المضاف إلى ضمير الجلالة هنا هو محمد كما هو مصطلح القرآن، فإنه لم يقع فيه لفظ العبد مضافاً إلى ضمير الغيبة الراجع إلى الله تعالى إلا مراداً به النبي؛ ولأن خبر الإسراء به إلى بيت المقدس قد شاع بين المسلمين وشاع إنكاره بين المشركين، فصار المراد بعبده‏}‏ معلوماً‏.‏

والإضافة إضافة تشريف لا إضافة تعريف لأن وصف العبودية لله متحقق لسائر المخلوقات فلا تفيد إضافته تعريفاً‏.‏

والمسجد الحرام هو الكعبة والفِناء المحيط بالكعبة بمكة المتخذ للعبادة المتعلقة بالكعبة من طواف بها واعتكاف عندها وصلاة‏.‏

وأصل المسجد‏:‏ أنه اسم مكان السجود‏.‏ وأصل الحرام‏:‏ الأمر الممنوع، لأنه مشتق من الحَرْم بفتح فسكون وهو المنع، وهو يرادف الحرم‏.‏ فوصف الشيء بالحرام يكون بمعنى أنه ممنوع استعماله استعمالاً يناسبه، نحو ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ أي أكل الميتة، وقول عنترة‏:‏

حُرمت علي وليتها لم تَحرم ***

أي ممنوع قربانها لأنها زوجة أبيه وذلك مذموم بينهم‏.‏

ويكون بمعنى الممنوع من أن يعمل فيه عمل ما‏.‏ ويبين بذكر المتعلق الذي يتعلق به‏.‏ وقد لا يذكر متعلّقة إذا دل عليه العرف، ومنه قولهم‏:‏ ‏{‏الشهر الحرام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ أي الحرام فيه القتال في عرفهم‏.‏ وقد يحذف المتعلق لقصد التكثير، فهو من الحذف للتعميم فيَرجع إلى العموم العرفي، ففي نحو ‏{‏البيت الحرام‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ يراد الممنوع من عُدوان المعتدين، وغزوِ الملوك والفاتحين، وعمللِ الظلم والسوءِ فيه‏.‏

والحرام‏:‏ فَعال بمعنى مفعول، كقولهم‏:‏ امرأة حَصان، أي ممنوعة بعفافها عن الناس‏.‏

فالمسجد الحرام هو المكان المعد للسجود، أي للصلاة، وهو الكعبة والفناء المجعول حرماً لها‏.‏ وهو يختلف سعة وضيقاً باختلاف العصور من كثرة الناس فيه للطواف والاعتكاف والصلاة‏.‏

وقد بنى قريش في زمن الجاهلية بيوتهم حول المسجد الحرام‏.‏ وجعل قُصي بقربه دارَ الندوة لقريش وكانوا يجلسون فيها حول الكعبة، فانحصر لما أحاطت به بيوت عشائر قريش‏.‏ وكانت كل عشيرة تتخذ بيوتها متجاورة‏.‏ ومجموع البيوت يسمى شِعباً بكسر الشين‏.‏ وكانت كل عشيرة تسلك إلى المسجد الحرام من منفذ دُورها، ولم يكن للمسجد الحرام جدار يُحفظ به‏.‏ وكانت المسالك التي بين دُور العشائر تسمى أبواباً لأنها يسلك منها إلى المسجد الحرام، مثل باب بني شيبة، وباب بني هاشم، وباب بني مخزوم وهو باب الصفا، وباب بني سهم، وباب بني تيم‏.‏ وربما عُرِف بعض الأبواب بجهة تقرب منه مثل بَاب الصفا ويسمى باب بني مخزوم‏.‏ وباب الحزورة سمي بمكان كانت به سوق لأهل مكة تسمى الحَزْورة‏.‏ ولا أدري هل كانت أبواباً تغلق أم كانت منافذ في الفضاء فإن الباب يطلق على ما بين حاجزين‏.‏

وأول من جعل للمسجد الحرام جداراً يُحفظ به هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة سبعَ عشرة من الهجرة‏.‏

ولُقب بالمسجد لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جعله لإقامة الصلاة في الكعبة كما حكى الله عنه ‏{‏ربنا ليقيموا الصلاة‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏‏.‏ ولما انقرضت الحنيفية وترك أهل الجاهلية الصلاة تناسوا وصفهُ بالمسجد الحرام فصاروا يقولون‏:‏ البيت الحرام‏.‏ وأما قول عمر‏:‏ إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فإنه عبر عنه باسمه في الإسلام‏.‏

فغلبَ عليه هذا التعريف التوصيفي فصار له علماً بالغلبة في اصطلاح القرآن‏.‏ ولا أعرف أنه كان يعرف في الجاهلية بهذا الاسم، ولا على مسجد بيت المقدس في عصر تحريمه عند بَني إسرائيل‏.‏ وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فول وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ في ‏[‏البقرة‏:‏ 144‏]‏، وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن صدوكم عن المسجد الحرام‏}‏ في أول العقود ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وعلميته بمجموع الوصف والموصوف وكلاهما معَرّف باللام‏.‏ فالجزء الأول مثل النجم والجزء الثاني مثل الصعِق، فحصل التعريف بمجموعهما، ولم يعد النحاةُ هذا النوع في أقسام العلم بالغلبة‏.‏ ولعلهم اعتبروه راجعاً إلى المعرف باللام‏.‏ ولا بد من عده لأن علميته صارت بالأمرين‏.‏

والمسجد الأقصى هو المسجد المعروف ببيتتِ المقدِس الكائن بإيلياء، وهو المسجد الذي بناه سليمان عليه الصلاة والسلام‏.‏

والأقصى، أي الأبعد‏.‏ والمراد بعده عن مكة، بقرينة جعله نهاية الإسراء من المسجد الحرام، وهو وصف كاشف اقتضاه هنا زيادة التنبيه على معجزة هذا الإسراء وكونه خارقاً للعادة لكونه قطْعَ مسافة طويلة في بعض ليلة‏.‏

وبهذا الوصف الوارد له في القرآن صار مجموع الوصف والموصوف علماً بالغلبة على مسجد بيت المقدس كما كان المسجد الحرام علماً بالغلبة على مسجد مكة‏.‏ وأحسب أن هذا العلم له من مبتكرات القرآن فلم يكن العرب يصفونه بهذا الوصف ولكنهم لما سمعوا هذه الآية فهموا المراد منه أنه مسجد إيلياء‏.‏ ولم يكن مسجد لدين إلهي غيرهما يومئذٍ‏.‏

وفي هذا الوصف بصيغة التفضيل باعتبار أصل وضعها معجزةٌ خفية من معجزات القرآن إيماء إلى أنه سيكون بين المسجدين مسجد عظيم هو مسجد طيبة الذي هو قَصِيٌ عن المسجد الحرام، فيكون مسجد بيت المقدس أقصى منه حينئذٍ‏.‏

فتكون الآية مشيرة إلى جميع المساجد الثلاثة المفضلة في الإسلام على جميع المساجد الإسلامية، والتي بينها قول النبي‏:‏» ‏"‏ لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي ‏"‏

وفائدة ذكر مبدأ الإسراء ونهايته بقوله‏:‏ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا‏}‏ أمران‏:‏

أحدهما‏:‏ التنصيص على قطع المسافة العظمية في جزء ليلة، لأن كلا من الظرف وهو ‏{‏ليلاً‏}‏ ومن المجرورين ‏{‏من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا‏}‏ قد تعلق بفعل ‏{‏أسرى‏}‏، فهو تعلق يقتضي المقارنة، ليعلم أنه من قبيل المعجزات‏.‏

وثانيهما‏:‏ الإيماء إلى أن الله تعالى يجعل هذا الإسراء رمزاً إلى أن الإسلام جمع ما جاءت به شرائع التوحيد والحنيفية من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الصادر من المسجد الحرام إلى ما تفرع عنه من الشرائع التي كان مقرها بيت المقدس ثم إلى خاتمتها التي ظهرت من مكة أيضاً؛ فقد صدرت الحنيفية من المسجد الحرام وتفرعت في المسجد الأقصى‏.‏ ثم عادت إلى المسجد الحرام كما عاد الإسراء إلى مكة لأن كل سُرى يعقبه تأويب‏.‏ وبذلك حصل رد العجز على الصدر‏.‏

ومن هنا يظهر مناسبة نزول التشريع الاجماعي في هذه السورة في الآيات المفتتحة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، ففيها‏:‏ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، ‏{‏وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23 35‏]‏ إيماء إلى أن هذا الدين سيكون ديناً يحكم في الناس وتنفذ أحكامه‏.‏

والمسجد الأقصى هو ثاني مسجد بناه إبراهيم عليه السلام كما ورد ذلك عن النبي‏.‏ ففي الصحيحين‏}‏ عن أبي ذر قال‏:‏ قلتُ يا رسول الله أي مسجد وُضع في الأرض أولُ‏؟‏ قال المسجدُ الحرام‏.‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ المسجد الأقصى‏.‏ قلت كمْ بينهما‏؟‏ قال أربعون سنة»‏.‏

فهذا الخبر قد بين أن المسجد الأقصى من بناء إبراهيم لأنه حُدد بمدة هي من مدة حياة إبراهيم عليه السلام‏.‏ وقد قُرن ذكره بذكر المسجد الحرام‏.‏

وهذا مما أهملَ أهل الكتاب ذكره‏.‏

وهو مما خَصّ الله نبيئه بمعرفته‏.‏ والتوراة تشهد له، فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح الثاني عشر‏:‏ أن إبراهيم لما دخل أرض كنعان ‏(‏وهي بلاد فلسطين‏)‏ نصب خيمته في الجبل شرقي بيت إيل ‏(‏بيت إيل مدينة على بعد أحد عشر ميلاً من أورشليم إلى الشمال وهو بلد كان اسمه عند الفلسطينيين ‏(‏لوزا‏)‏ فسماه يعقوب‏:‏ بيت إيل، كما في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر التكوين‏)‏ وغربي بلاد عاي ‏(‏مدينة عبرانية تعرف الآن «الطيبة»‏)‏ وبنى هنالك مذبحاً للرب‏.‏

وهم يطلقون المذبح على المسجد لأنهم يذبحون القرابين في مساجدهم‏.‏ قال عمر بن أبي ربيعة‏:‏

دُميةٌ عند راهب قسيس *** صوروها في مذبح المحراب

أي مَكانَ المذبح من المسجد، لأن المحراب هو محل التعبد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو قائم يصلي في المحراب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏‏.‏

ولا شك أن مسجد إبراهيم هو الموضع الذي توخى داود عليه السلام أن يضع عليه الخيمة وأن يبني عليه محرابه أو أوحى الله إليه بذلك، وهو الذي أوصى ابنَه سليمان عليه السلام أن يبني عليه المسجدَ، أي الهيكل‏.‏ وقد ذكر مؤرخو العبرانيين ومنهم ‏(‏يوسيفوس‏)‏ أن الجبل الذي سكنه إبراهيم بأرض كنعان اسمه ‏(‏نَابو‏)‏ وأنه هو الجبل الذي ابتنى عليه سليمان الهيكل وهو المسجد الذي به الصخرة‏.‏

وقصة بناء سليمان إياه مفصلة في سفر الملوك الأول من أسفار التوراة‏.‏

وقد انتابه التخريب ثلاث مرات‏:‏

أولاها‏:‏‏}‏ حين خربه بختَنَصّر ملكُ بابل سنة 578 قبل المسيح ثم جدده اليهود تحت حكم الفُرس‏.‏

الثانية‏:‏ خربه الرومان في مدة طيطوس بعد حروب طويلة بينه وبين اليهود وأعيد بناؤه، فأكمل تخريبَه أدريانوس سنة 135 للمسيح وعفى آثاره فلم تبق منه إلا أطلال‏.‏

الثالثة لما تنصرت الملكة هيلانة أم الأنبراطور قسطنطين ملككِ الروم ‏(‏بيزنطة‏)‏ وصارت متصلبة في النصرانية، وأشرب قلبُها بُغْض اليهود بما تعتقده من قتلهم المسيح كان مما اعتدت عليه حين زارت أورشليم أن أمرت بتعفية أطلال هيكل سليمان وأن ينقل ما بقي من الأساطين ونحوها فتبني بها كنيسة على قبر المسيح المزعوم عندهم في موضع توسموا أن يكون هو موضع القبر ‏(‏والمؤرخون من النصارى يشكون في كون ذلك المكان هو المكان الذي يُدَّعَى أن المسيح دفن فيه‏)‏ وأن تسميها كنيسة القيامة، وأمَرَت بأن يجعل موضعُ المسجد الأقصى مرمَى أزبال البلد وقُماماته فصار موضعُ الصخرة مَزْبلة تراكمت عليها الأزبال فغطتها وانحدرت على درجها‏.‏

ولما فتح المسلمون بقية أرض الشام في زمن عمر وجاء عمر بن الخطاب ليشهد فتح مدينة إيلياء وهي المعروفة من قبلُ ‏(‏أورشليم‏)‏ وصارت تسمى إيلياء بكسر الهمزة وكسر اللام وكذلك كان اسمها المعروف عند العرب عندما فتح المسلمون فلسطين‏.‏ وإيلياء اسم نبيء من بني إسرائيل كان في أوائل القرن التاسع قبل المسيح‏.‏

قال الفرزدق‏:‏

وبيتان بيتُ الله نحن ولاته *** وبيتٌ بأعلى إيلياء مشرَّف

وانعقد الصلح بين عُمر وأهل تلك المدينة وهم نصارى‏.‏ قال عمر لبطريق لهم اسمه ‏(‏صفرونيوس‏)‏ «دُلني على مسجد داوود»، فانطلق به حتى انتهى إلى مكان الباب وقد انحدر الزبل على دَرَج الباب فتجشم عمر حتى دخَل ونظر فقال‏:‏ الله أكبر، هذا والذي نفسي بيده مسجدُ داوود الذي أخبرنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أُسري به إليه»‏.‏ ثم أخذ عمر والمسلمون يكنسون الزبل عن الصخرة حتى ظهرت كلها، ومضى عمر إلى جهة محراب داوود فصلى فيه، ثم ارتحل من بلد القدس إلى فلسطين‏.‏

ولم يَبن هنالك مسجداً إلى أن كان في زمن عبد الملك بن مروان أمر بابتداء بناء القبة على الصخرة وعمارة المسجد الأقصى‏.‏ ووكل على بنائها رَجاء بن حَيْوَة الكِندي أحد علماء الإسلام، فابتدأ ذلك سنة ست وستين وكان الفراغ من ذلك في سنة ثلاث وسبعين‏.‏

كان عمر أول من صلى فيه من المسلمين وجعل له حرمة المساجد‏.‏

ولهذا فتسمية ذلك المكان بالمسجد الأقصى في القرآن تسمية قرآنية اعتبر فيها ما كان عليه من قبل لأن، حكم المسجدية لا ينقطع عن أرض المسجد‏.‏ فالتسمية باعتبار ما كان، وهي إشارة خفية إلى أنه سيكون مسجداً بأكمل حقيقة المساجد‏.‏

واستقبله المسلمون في الصلاة من وقت وجوبها المقارن ليلة الإسراء إلى ما بعد الهجرة بستة عشر شهراً‏.‏ ثم نسخ استقباله وصارت الكعبة هي القبلة الإسلامية‏.‏

وقد رأيت أن سائحاً نصرانياً اسمه ‏(‏اركولف‏)‏ زار القدس سنة 670 م، أي بعد خلافة عمر بأربع وثلاثين سنة، وزعم أنه رأى مسجداً بناه عمر على شكل مربع من ألواح وجذوع أشجار ضخمة وأنه يسع نحو ثلاثة آلاف‏.‏

والظاهر أن نسبة المسجد الأقصى إلى عمر بن الخطاب وهَم من أوهام النصارى اختلط عليهم كشف عمر موضع المسجد فظنوه بناءً‏.‏ وإذا صدق اركولف فيما ذكر من أنه رأى مكاناً مربعاً من ألواح وعمد أشجار كان ذلك شيئاً أحدثه مسلمو البلاد لصيانة ذلك المكان عن الامتهان‏.‏

وقوله ‏{‏الذي باركنا حوله‏}‏ صفة للمسجد الأقصى‏.‏ وجيء في الصفة بالموصولية لقصد تشهير الموصوف بمضمون الصلة حتى كأن الموصوف مشتهر بالصلة عند السامعين‏.‏ والمقصود إفادة أنه مبارك حوله‏.‏

وصيغة المفاعلة هنا للمبالغة في تكثير الفعل، مثل عافاك الله‏.‏

والبركة‏:‏ نماء الخير والفضل في الدنيا والآخرة بوفرة الثواب للمصلين فيه وبإجابة دعاء الداعين فيه‏.‏ وقد تقدم ذكر البركة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مباركاً وهدى للعالمين‏}‏ في ‏[‏آل عمران‏:‏ 96‏]‏‏.‏

وقد وصف المسجد الحرام بمثل هذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 96‏]‏‏.‏

ووجه الاقتصار على وصف المسجد الأقصى في هذه الآية بذكر هذا التبريك أن شهرة المسجد الحرام بالبركة وبكونه مقام إبراهيم معلومة للعرب؛ وأما المسجد الأقصى فقد تناسى الناس ذلك كله، فالعرب لا علم لهم به والنصارى عفوا أثره من كراهيتهم لليهود، واليهود قد ابتعدوا عنه وأيسوا من عوده إليهم، فاحتيج إلى الإعلام ببركته‏.‏

و حولَ يدل على مكان قريب من مكان اسم ما أضيف ‏(‏حولَ‏)‏ إليه‏.‏

وكونُ البركة حولَه كنايةٌ عن حصول البركة فيه بالأوْلى، لأنها إذا حصلت حوله فقد تجاوزت ما فيه؛ ففيه لطيفة التلازم، ولطيفة فحوَى الخطاب، ولطيفة المبالغة بالتكثير‏.‏ وقريب منه قول زياد الأعجم‏:‏

إنّ السماحةَ والمروءة والندى *** في قبةٍ ضُربت على ابن الحشرج

ولكلمة ‏{‏حوله‏}‏ في هذه الآية من حسن الموقع ما ليس لكلمة ‏(‏في‏)‏ في بيت زياد، ذلك أن ظرفية ‏(‏في‏)‏ أعم‏.‏ فقوله‏:‏ ‏(‏في قبة‏)‏ كناية عن كونها في ساكن القبة لكن لا تفيد انتشارها وتجاوزها منه إلى ما حوله‏.‏

وأسباب بركة المسجد الأقصى كثيرة كما أشارت إليه كلمة ‏{‏حوله‏}‏‏.‏ منها أن واضعه إبراهيم عليه السلام، ومنها ما لحقه من البركة بمن صلى به من الأنبياء من داوود وسليمان ومن بعدهما من أنبياء بني إسرائيل، ثم بحلول الرسول عيسى عليه السلام وإعلانه الدعوة إلى الله فيه وفيما حوله، ومنها بركة من دُفن حوله من الأنبياء، فقد ثبت أن قبري داوود وسليمان حول المسجد الأقصى‏.‏ وأعظم تلك البركات حلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذلك الحلول الخارق للعادة، وصلاته فيه بالأنبياء كلهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لنريه من آياتنا‏}‏ تعليل الإسراء بإرادة إراءة الآيات الربانية، تعليلٌ ببعض الحِكَم التي لأجلها منح الله نبيئه منحة الإسراء، فإن للإسراء حِكماً جمة تتضح من حديث الإسراء المروي في «الصحيح»‏.‏ وأهمها وأجمعها إراءته من آيات الله تعالى ودلائل قدرته ورحمته، أي لنريه من الآيات فيخبرهم بما سألوه عن وصف المسجد الأقصى‏.‏

ولام التعليل لا تفيد حصر الغرض من متعلقها في مدخولها‏.‏

وإنما اقتُصر في التعليل على إراءة الآيات لأن تلك العلة أعلق بتكريم المُسرَى به والعناية بشأنه، لأن إراءة الآيات تزيد يقين الرائي بوجودها الحاصل من قبل الرؤية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 75‏]‏‏.‏

فإن فطرة الله جعلت إدراك المحسوسات أثبت من إدراك المدلولات البرهانية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏، ولذلك لم يقل الله بعد هذا التعليل أو لم يطمئن قلبك، لأن اطمئنان القلب مُتَّسِعُ المدى لا حد له فقد أنطق الله إبراهيم عن حكمة نبوءة، وقد بادر محمداً بإراءة الآيات قبل أن يسأله إياها توفيراً في الفضل‏.‏

قال علي بن حزم الظاهري وأجاد‏:‏

ولكن للعيان لطيفُ معنى *** له سأل المعايَنة الكليمُ‏.‏

واعلم أن تقوية يقين الأنبياء من الحكم الإلهية لأنهم بمقدار قوة اليقين يزيدون ارتقاء على درجة مستوى البشر والتحاقاً بعلوم عالم الحقائق ومساواة في هذا المضمار لمراتب الملائكة‏.‏

وفي تغيير الأسلوب من الغيبة التي في اسم الموصول وضميريه إلى التكلم في قوله‏:‏ باركنا‏.‏‏.‏‏.‏ ولنُريه من آياتنا سلوكٌ لطريقة الالتفات المتبعة كثيراً في كلام البلغاء‏.‏ وقد مضى الكلام على ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إياك نعبد‏}‏ في ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

والالتفات هنا امتاز بلطائف‏:‏

منها‏:‏ أنه لما استُحضرت الذات العلية بجملة التسبيح وجملة الموصولية صار مقام الغيبة مقام مشاهدة فناسب أن يغير الإضمار إلى ضمائر المشاهدة وهو مقام التكلم‏.‏

ومنها‏:‏ الإيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام عند حلوله بالمسجد الأقصى قد انتقل من مقام الاستدلال على عالم الغيب إلى مقام مصيره في عالم المشاهدة‏.‏

ومنها‏:‏ التوطئة والتمهيد إلى محمل معاد الضمير في قوله‏:‏ إنه هو السميع البصير‏}‏، فيتبادر عود ذلك الضمير إلى غير من عاد إليه ضمير ‏{‏نريه‏}‏ لأن الشأن تناسق الضمائر، ولأن العود إلى الالتفات بالقرب ليس من الأحسن‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏إنه هو السميع البصير‏}‏ الأظهرُ أن الضميرين عائدان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقاله بعض المفسرين، واستقرَبَه الطيبي، ولكن جمهرة المفسرين على أنه عائد إلى الله تعالى‏.‏ ولعل احتماله للمعنيين مقصود‏.‏

وقد تجيء الآيات محتملة عدّةَ معاننٍ‏.‏ واحتمالها مقصود تكثيراً لمعاني القرآن، ليأخذ كل منه على مقدار فهمه كما ذكرنا في المقدمة التاسعة‏.‏ وأياما كان فموقع ‏(‏إنّ‏)‏ التوكيد والتعليل كما يؤذن به فصل الجملة عما قبلها‏.‏

وهي إما تعليل لإسناد فعل ‏{‏نريه إلى فاعله؛ وإما تعليل لتعليقه بمفعوله، فيفيد أن تلك الإراءة من باب الحكمة، وهي إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، فهو من إيتاء الحكمة من هو أهلها‏.‏

والتعليل على اعتبار مرجع الضمير إلى النبي أوقع، إذ لا حاجة إلى تعليل إسناد فعل الله تعالى لأنه محقق معلوم‏.‏ وإنما المحتاج للتعليل هو إعطاء تلك الإراءة العجيبة لمن شك المشركون في حصولها له ومن يحسبون أنه لا يطيقها مثله‏.‏

على أن الجملة مشتملة على صيغة قصر بتعريف المسند باللام وبضمير الفصل قصراً مؤكداً، وهو قصر موصوف على صفة قصراً إضافياً للقلب، أي هو المدرك لما سمعه وأبصرهُ لا الكاذِبُ ولا المتوهمُ كما زعم المشركون‏.‏ وهذا القصر يؤيد عود الضمير إلى النبي لأنه المناسب للرد‏.‏ ولا ينازع المشركون في أن الله سميع وبصير إلا على تأويل ذلك بأنه المُسمع والمبصِر لرسوله الذي كذبتموه، فيؤول إلى تنزيه الرسول عن الكذب والتوهم‏.‏

ثم إن الصفتين على تقدير كونهما للنبيء هما على أصل اشتقاقهما للمبالغة في قوة سمعه وبصره وقبولهما لتلقي تلك المشاهدات المدهشة، على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما زاغ البصر وما طغى‏}‏

‏[‏النجم‏:‏ 17‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أفتمارونه على ما يرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وأما على تقدير كونهما صفتين لله تعالى فالمناسب أن تؤولا بمعنى المسمع المبصر، أي القادر على إسماع عبده وإبصاره، كما في قول عمرو بن معد يكرب‏:‏

أمن ريحانة الداعي السميع ***

أي المُسمع‏.‏

وقد اختلف السلف في الإسراء أكان بجسد رسول الله من مكة إلى بيت المقدس أم كان بروحه في رؤيا هي مشاهدة رُوحانية كاملة ورؤيا الأنبياء حق‏.‏ والجمهور قالوا‏:‏ هو إسراء بالجسد في اليقظة، وقالت عائشة ومعاوية والحسن البصري وابن إسحاق رضي الله عنهم أنه إسراء بروحه في المنام ورؤيا الأنبياء وحي‏.‏

واستدل الجمهور بأن الامتنان في الآية وتكذيبَ قريش بذلك دليلان على أنه ما كان الإخبار به إلا على أنه بالجسد‏.‏ واتفق الجميع على أن قريشاً استوصفوا من النبي علامات في بيت المقدس وفي طريقه فوصفها لهم كما هي، ووصف لهم عيراً لقريش قافلة في طريق معين ويوم معين فوجدوه كما وصف لهم‏.‏

ففي صحيح البخاري‏}‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ بينما أنا في المسجد الحرام بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ إلى آخر الحديث‏.‏ وهذا أصح وأوضح مما روي في حديث آخر أن الإسراء كان من بيته أو كان من بيت أم هاني بنت أبي طالب أو من شعب أبي طالب‏.‏

والتحقيق حمل ذلك على أنه إسراء آخر، وهو الوارد في حديث المعراج إلى السماوات وهو غير المراد في هذه الآية‏.‏ فللنبيء صلى الله عليه وسلم كرامتان‏:‏ أولاهما الإسراء وهو المذكور هنا، والأخرى المعراج وهو المذكور في حديث «الصحيحين» مطولاً وأحاديث غيرِه‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه هو المشار إليه في سورة النجم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏سبحان الذي أسرى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ الخ فهي ابتدائية‏.‏ والتقدير‏:‏ الله أسرى بعبده محمد وآتى موسى الكتاب، فهما منتان عظيمتان على جزء عظيم من البشر‏.‏ وهو انتقال إلى غرض آخر لِمناسبة ذكر المسجد الأقصى‏.‏ فإن أطوار المسجد الأقصى تمثل ما تطور به حالُ بني إسرائيل في جامعتهم من أطوار الصلاح والفساد، والنهوض والركود، ليعتبر بذلك المسلمون فيقتدوا أو يحذروا‏.‏

ولمناسبة قوله‏:‏ ‏{‏لنريه من آياتنا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ فإن من آيات الله التي أوتيها النبي آيَةَ القرآن، فكان ذلك في قوة أن يقال‏:‏ وآتيناه القرآن وآتينا موسى الكتاب ‏(‏أي التوراة‏)‏، كما يشهد به قوله بعد ذلك ‏{‏إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏ أي للطريقة التي هي أقوم من طريقة التوراة وإن كان كلاهما هُدى، على ما في حالة الإسراء بالنبي عليه الصلاة والسلام ليلاً ليرى من آيات الله تعالى من المناسبة لحالة موسى عليه السلام حين أوتي النبوة، فقد أوتي النبوءة ليلاً وهو سار بأهله من أرض مدين إذ آنس من جانب الطور ناراً، ولحاله أيضاً حين أسري به إلى مناجاة ربه بآيات الكتاب‏.‏

والكتاب هو المعهود إيتاؤُه موسى عليه السلام وهو التوراة‏.‏ وضمير الغائب في جعلناه للكتاب، والإخبار عنه بأنه هدى مبالغة لأن الهُدى بسبب العمل بما فيه فجُعل كأنه نفسُ الهدى، كقوله تعالى في القرآن‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وخص بني إسرائيل لأنهم المخاطبون بشريعة التوراة دون غيرهم، فالجعل الذي في قوله‏:‏ وجعلناه‏}‏ هو جعل التكليف‏.‏ وهم المراد ب «الناس» في قوله‏:‏ ‏{‏قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏، لأن الناس قد يطلق على بعضهم، على أن ما هو هدى لفريق من الناس صالح لأن يَنتفع بهديه من لم يكن مخاطباً بكتاب آخرَ، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ألا تتخذوا‏}‏ بتاء الخطاب على الأصل في حكاية ما يحكى من الأقوال المتضمنة نهياً، فتكون ‏(‏أنْ‏)‏ تفسيرية لما تضمنه لفظ ‏(‏الكتاب‏)‏ من معنى الأقوال، ويكون التفسير لبعض ما تضمنه الكتاب اقتصاراً على الأهم منه وهو التوحيد‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحده بياء الغيبة على اعتبار حكاية القول بالمعنى، أو تكون ‏(‏أنْ‏)‏ مصدرية مجرورة بلام محذوفة حَذفاً مطرداً، والتقدير‏:‏ آتيناهم الكتاب لئلا يتخذوا من دوني وكيلا‏.‏

والوكيل‏:‏ الذي تفوض إليه الأمور‏.‏ والمراد به الرب، لأنه يتكل عليه العباد في شؤونهم، أي أن لا تتخذوا شريكاً تلجؤون إليه‏.‏ وقد عُرف إطلاق الوكيل على الله في لغة بني إسرائيل كما حكى الله عن يعقوب وأبنائه ‏{‏فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 66‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون اعتراضاً في آخر الحكاية ليس داخلاً في الجملة التفسيرية‏.‏ فانتصاب ‏{‏ذريّةَ‏}‏ على الاختصاص لزيادة بيان بني إسرائيل بياناً مقصوداً به التعريض بهم إذ لم يشكروا النعمة‏.‏ ويجوز أن يكون من تمام الجملة التفسيرية، أي حال كونكم ذرية من حملنا مع نوح عليه السلام، أو ينتصب على النداء بتقدير حرف النداء، أي يا ذرية من حملنا مع نوح، مقصوداً به تحريضهم على شكر نعمة الله واجتناب الكفر به باتخاذ شركاء دونه‏.‏

والحمل وضع شيء على آخر لنقله، والمراد الحمل في السفينة كما قال‏:‏ ‏{‏حملناكم في الجارية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 11‏]‏، أي ذرّيّة من أنجيناهم من الطوفان مع نوح عليه السلام‏.‏

وجملة إنه كان عبدا شكوراً‏}‏ مفيدة تعليل النهي عن أن يتخذوا من دون الله وكيلاً، لأن أجدادهم حملوا مع نوح بنعمة من الله عليهم لنجاتهم من الغرق وكان نوح عبداً شكوراً والذين حملوا معه كانوا شاكرين مثله، أي فاقتدوا بهم ولا تكفروا نعم الله‏.‏

ويحتمل أن تكون هذه الجملة من تمام الجملة التفسيرية فتكون مما خاطب الله به بني إسرائيل، ويحتمل أنها مذيلة لجملة ‏{‏وآياتنا موسى الكتاب‏}‏ فيكون خطاباً لأهل القرآن‏.‏

واعلم أن في اختيار وصفهم بأنهم ذرية من حمل مع نوح عليه السلام معاني عظيمة من التذكير والتحريض والتعريض لأن بني إسرائيل من ذرية سام بن نوح وكان سام ممن ركب السفينة‏.‏

وإنما لم يقل ذرية نوح مع أنهم كذلك قصداً لإدماج التذكير بنعمة إنجاء أصولهم من الغرق‏.‏

وفيه تذكير بأن الله أنجى نوحاً ومن معه من الهلاك بسبب شكره وشكرهم تحريضاً على الائتساء بأولئك‏.‏

وفيه تعريض بأنهم إن أشركوا ليُوشكن أن ينزل بهم عذاب واستئصال، كما في قوله‏:‏ ‏{‏قيل يا نوح اهبِطْ بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنُمتعهم ثم يَمَسُّهُمْ منا عذابٌ أليم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وفيه أن ذرية نوح كانوا شقين شق بار مطيع، وهم الذين حملهم معه في السفينة، وشق متكبر كافر وهو ولده الذي غرق، فكان نوح عليه السلام مثلاً لأبي فريقين، وكان بنو إسرائيل من ذرية الفريق البار، فإن اقتدوا به نَجُوا وإن حادوا فقد نزعوا إلى الفريق الآخر فيوشك أن يهلكوا‏.‏ وهذا التماثل هو نكتة اختيار ذكر نوح من بين أجدادهم الآخرين مثل إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب عليهم السلام، لفوات هذا المعنى في أولئك‏.‏ وقد ذكر في هذه السورة استئصال بني إسرائيل مرتين بسبب إفسادهم في الأرض وعلوهم مرتين وأن ذلك جزاء إهمالهم وعْدَ اللّهِ نوحاً عليه السلام حينما نجاه‏.‏

وتأكيد كون نوح كان عبداً شكوراً‏}‏ بحرف ‏(‏إنّ‏)‏ تنزيل لهم منزلة من يجهل ذلك؛ إما لتوثيق حملهم على الاقتداء به إن كانت الجملة خطاباً لبني إسرائيل من تمام الجملة التفسيرية، وإما لتنزيلهم منزلة من جهل ذلك حتى تورطوا في الفساد فاستأهلوا الاستئصال وذهاب ملكهم، لينتقل منه إلى التعريض بالمشركين من العرب بأنهم غير مقتدين بنوح لأن مثلهم ومثل بني إسرائيل في هذا السياق واحد في جميع أحوالهم، فيكون التأكيد منظوراً فيه إلى المعنى التعريضي‏.‏

ومعنى كون نوح ‏{‏عبداً‏}‏ أنه معترف لله بالعبودية غير متكبر بالإشراك، وكونه ‏{‏شكوراً‏}‏، أي شديداً لشكر الله بامتثال أوامره‏.‏ وروي أنه كان يكثر حمد الله‏.‏

والاقتداء بصالح الآباء مجبولة عليه النفوس ومحل تنافس عند الأمم بحيث يعد خلاف ذلك كمثير للشك في صحة الانتساب‏.‏

وكان نوح عليه السلام مثلاً في كمال النفس وكانت العرب تعرف ذلك وتنبعث على الاقتداء به‏.‏ قال النابغة‏:‏

فألفيت الأمانة لم تخنها *** كذلك كان نوح لا يخون

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏4‏)‏ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وآتينا موسى الكتاب‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2‏]‏، أي آتينا موسى الكتاب هُدى، وبينا لبني إسرائيل في الكتاب ما يحل بهم من جراء مخالفة هدي التوراة إعلاماً لهذه الأمة بأن الله لم يدخر أولئك إرشاداً ونصحاً، فالمناسبة ظاهرة‏.‏

والقضاء بمعنى الحكم وهو التقدير، ومعنى كونه في الكتاب أن القضاء ذكر في الكتاب، وتعدية قضينا بحرف ‏(‏إلى‏)‏ لتضمين قضينا معنى ‏(‏أبلغنا‏)‏، أي قضينا وأنهينا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضينا إليه ذلك الأمر‏}‏ في سورة ‏[‏الحجر‏:‏ 66‏]‏‏.‏ فيجوز أن يكون المراد ب ‏(‏الكتاب‏)‏ كتاب التوراة والتعريف للعهد لأنه ذكر الكتاب آنفاً، ويوجد في مواضع، منها ما هو قريب مما في هذه الآية لكن بإجمال ‏(‏انظر الإصحاج 26 والإصحاح 28 والإصحاح 30‏)‏، فيكون العدول عن الإضمار إلى إظهار لفظ ‏(‏الكتاب‏)‏ لمجرد الاهتمام‏.‏

ويجوز أن يكون الكتاب بعض كتبهم الدينية‏.‏ فتعريف ‏(‏الكتاب‏)‏ تعريف الجنس وليس تعريف العهد الذكري، إذ ليس هو الكتابَ المذكور آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏وآتينا موسى الكتاب‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2‏]‏ لأنه لما أظهر اسم الكتاب أشعر بأنه كتاب آخر من كتبهم، وهو الأسفار المسماة بكتب الأنبياء‏:‏ أشعياء، وأرميا، وحزقيال، ودانيال، وهي في الدرجة الثانية من التوراة‏.‏ وكذلك كتاب النبي مَلاَخي‏.‏

والإفساد مرتين ذكر في كتاب أشعياء وكتاب أرمياء‏.‏

ففي كتاب أشعياء نذارات في الإصحاح الخامس والعاشر‏.‏ وأولى المرتين مذكورة في كتاب أرمياء في الإصحاح الثاني والإصحاح الحادي والعشرين وغيرهما‏.‏ وليس المراد بلفظ الكتاب كتاباً واحداً فإن المفرد المعرف بلام الجنس يراد به المتعدد‏.‏ وعن ابن عباس الكتاب أكثر من الكتب‏.‏ ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة وكتب الأنبياء ولذلك أيضاً وقع بالإظهار دون الإضمار‏.‏

وجملة ‏{‏لتفسدن في الأرض مرتين‏}‏ إلى قوله ‏{‏حصيرا‏}‏ مبيّنة لجملة ‏{‏وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب‏}‏‏.‏ وأيّا مّا كان فضمائر الخطاب في هذه الجملة مانعة من أن يكون المراد بالكتاب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب‏}‏ اللوح المحفوظ أو كتاب الله، أي علمه‏.‏

وهذه الآية تشير إلى حوادث عظيمة بين بني إسرائيل وأعدائهم من أمتين عظيمتين‏:‏ حوادث بينهم وبين البابليين، وحوادث بينهم وبين الرومانيين‏.‏ فانقسمت بهذا الاعتبار إلى نوعين‏:‏ نوع منهما تنْدَرج فيه حوادثهم مع البابليين، والنوع الآخر حوادثهم مع الرومانيين، فعبر عن النوعين بمرتين لأن كل مرة منهما تحتوي على عدة ملاحم‏.‏

فالمرة الأولى هي مجموع حوادث متسلسلة تسمى في التاريخ بالأسر البابلي وهي غزوات ‏(‏بختنصر‏)‏ مَلِك بابل وأشور بلاَد أورشليم‏.‏ والغزو الأول كان سنة 606 قبل المسيح، أسَر جماعات كثيرة من اليهود ويسمى الأسر الأول‏.‏ ثم غزاهم أيضاً غزواً يسمى الأسر الثاني، وهو أعظم من الأول، كان سنة 598 قبل المسيح، وأسَرَ ملكَ يهوذا وجمعاً غفيراً من الإسرائيليين وأخذ الذهب الذي في هيكل سليمان وما فيه من الآنية النفيسة‏.‏

والأسر الثالث المُبير سنة 588 قبل المسيح غزاهم «بختنصر» وسبى كل شعب يهوذا، وأحرق هيكل سليمان، وبقيت أورشليم خراباً يباباً‏.‏ ثم أعادوا تعميرها كما سيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم رددنا لكم الكرة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وأما المرة الثانية فهي سلسلة غزوات الرومانيين بلادَ أورشليم‏.‏ وسيأتي بيانها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا جاء وعد الآخرة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 6‏]‏ الآية‏.‏

وإسناد الإفساد إلى ضمير بني إسرائيل مفيد أنه إفساد من جمهورهم بحيث تعد الأمة كلُّها مُفسدة وإن كانت لا تخلو من صالحين‏.‏

والعلو في قوله‏:‏ ولتعلن علوا كبيراً‏}‏ مجاز في الطغيان والعصيان كقوله‏:‏ ‏{‏إن فرعون علا في الأرض‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنه كان عالياً من المسرفين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 31‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ‏[‏النمل‏:‏ 31‏]‏ تشبيهاً للتكبر والطغيان بالعلو على الشيء لامتلاكه تشبيه معقول بمحسوس‏.‏

وأصل ولتعلن‏}‏ لتعْلُوْونَنّ‏.‏ وأصل ‏{‏لتفسدن‏}‏ لتفسدونن‏.‏

والوعد مصدر بمعنى المفعول، أي موعود أولى المرتين، أي الزمان المقدر لحصول المرة الأولى من الإفساد والعلو، كقوله‏:‏ ‏{‏فإذا جاء وعد ربي جعله دكاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 98‏]‏‏.‏

ومثل ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وكان وعداً مفعولا‏}‏ أي معمولاً ومنفذاً‏.‏

وإضافة ‏{‏وعد‏}‏ إلى ‏{‏أولاهما‏}‏ بيانية، أي الموعود الذي هو أولى المرتين من الإفساد والعلو‏.‏

والبعث مستعمل في تكوين السير إلى أرض إسرائيل وتهيئة أسبابه حتى كأن ذلك أمر بالمسير إليهم كما مر في قوله‏:‏ ‏{‏ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 167‏]‏، وهو بعث تكوين وتسخير لا بعث بوحي وأمر‏.‏

وتعدية بعثنا‏}‏ بحرف الاستعلاء لتضمينه معنى التسليط كقوله‏:‏ ‏{‏ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 167‏]‏‏.‏

والعِباد‏:‏ المملوكون، وهؤلاء عباد مخلوقية، وأكثر ما يقال‏:‏ عباد الله‏.‏ ويقال‏:‏ عَبيد، بدون إضافة، نحو ‏{‏وما ربك بظلام للعبيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏، فإذا قصد المملوكون بالرق قيل‏:‏ عَبيد، لا غير‏.‏ والمقصود بعباد الله هنا الأشوريون أهل بابل وهم جنود بختنصر‏.‏

والبأس‏:‏ الشوكة والشدة في الحرب‏.‏ ووصفه بالشديد لقوته في نوعه كما في آية سورة سليمان ‏[‏النمل‏:‏ 33‏]‏‏:‏ ‏{‏قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد‏.‏‏}‏ وجملة فجاسوا‏}‏ عطف على ‏{‏بعثنا‏}‏ فهو من المقضي في الكتاب‏.‏ والجوس‏:‏ التخلل في البلاد وطرقها ذهاباً وإياباً لتتبع ما فيها‏.‏ وأريد به هنا تتبّع المقاتلة فهو جوس مضرة وإساءة بقرينة السياق‏.‏

و ‏(‏خلال‏)‏ اسم جاء على وزن الجموع ولا مفرد له، وهو وسط الشيء الذي يتخلل منه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فترى الودق يخرج من خلاله‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏‏.‏

والتعريف في الديار‏}‏ تعريف العهد، أي دياركم، وذلك أصل جعل ‏(‏ال‏)‏ عوضاً عن المضاف إليه‏.‏ وهي ديار بلد أورشليم فقد دخلها جيش بختنصر وقتل الرجال وسبى، وهدم الديار، وأحرق المدينة وهيكل سليمان بالنار‏.‏ ولفظ ‏(‏الديار‏)‏ يشمل هيكل سليمان لأنه بيت عبادتهم، وأسر كل بني إسرائيل وبذلك خلت بلاد اليهود منهم‏.‏ ويدل لذلك قوله في الآية الآتية‏:‏ ‏{‏وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ‏(‏6‏)‏ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ‏(‏7‏)‏ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

عطف جملة ‏{‏فجاسوا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ ‏(‏5‏]‏ فهو من تمام جواب ‏(‏إذَا‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فإذا جاء وعد أولاهما‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏، ومن بقية المقضي في الكتاب، وهو ماض لفظاً مستقبل معنًى، لأن ‏(‏إذا‏)‏ ظرف لِما يستقبل‏.‏ وجيء به في صيغة الماضي لتحقيق وقوع ذلك‏.‏ والمعنى‏:‏ نبعث عليكم عباداً لنا فيجوسون ونرد لكم الكرة عليهم ونمددكم بأموال وبنين ونجعلكم أكثر نفيراً‏.‏

و ‏(‏ثم‏)‏ تفيد التراخي الرتبي والتراخي الزمني معاً‏.‏

والردّ‏:‏ الإرجاع‏.‏ وجيء بفعل رددنا‏}‏ ماضياً جَرياً على الغالب في جواب ‏(‏إذا‏)‏ كما جاء شرطها فعلاً ماضياً في قوله‏:‏ ‏{‏فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏ أي إذا يجيء يبعث‏.‏

والكرة‏:‏ الرجعة إلى المكان الذي ذهب منه‏.‏

فقوله‏:‏ عليهم‏}‏ ظرف مستقر هو حال من ‏{‏الكرة‏}‏، لأن رجوع بني إسرائيل إلى أورشليم كان بتغلب ملك فارس على ملك بابل‏.‏

وذلك أن بني إسرائيل بعد أن قضوا نيفاً وأربعين سنة في أسر البابليين وتابوا إلى الله وندموا على ما فرط منهم سَلط الله ملوكَ فارس على ملوك بابل الأشوريين؛ فإن الملك ‏(‏كُورش‏)‏ ملك فارس حارب البابليين وهزمهم فضعُف سلطانهم، ثم نزل بهم ‏(‏دَاريوس‏)‏ ملك فارس وفتح بابل سنة 538 قبل المسيح، وأذن لليهود في سنة 530 قبل المسيح أن يرجعوا إلى أورشليم ويجددوا دولتهم‏.‏ وذلك نصر انتصروه على البابليين إذ كانوا أعواناً للفرس عليهم‏.‏

والوعد بهذا النصر ورد أيضاً في كتاب أشعياء في الإصحاحات‏:‏ العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، وغيرها، وفي كتاب أرميا في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً‏}‏ هو من جملة المقضي الموعود به‏.‏ ووقع في الإصحاح التاسع والعشرين من كتاب أرميا «هكذا قال الرب إلهُ إسرائيل لكل السبي الذي سبيتهُ من أورشليم إلى بابل‏:‏ ابنوا بيوتاً واسكنوا، واغرسوا جنات، وكلوا ثمرها، خُذوا نساء ولِدُوا بنين وبناتتٍ، واكثروا هناك ولا تقِلُّوا»‏.‏

و ‏{‏نفيراً‏}‏ تمييز «لأكثر» فهو تبيين لجهة الأكثرية، والنفير‏.‏ اسم جمع للجماعة التي تنفر مع المرء من قومه وعشيرته، ومنه قول أبي جهل‏:‏ «لا في العير ولا في النفير»‏.‏

والتفضيل في ‏(‏أكثر‏)‏ تفضيل على أنفسهم، أي جعلناكم أكثر مما كنتم قبل الجَلاء، وهو المناسب لمقام الامتنان‏.‏ وقال جمع من المفسرين‏:‏ أكثرَ نفيراً من أعدائكم الذين أخرجوكم من دياركم، أي أفنى معظم البابليين في الحروب مع الفرس حتى صار عدد بني إسرائيل في بلاد الأسر أكثر من عدد البابليين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها‏}‏ من جملة المقضي في الكتاب مما خوطب به بنو إسرائيل، وهو حكاية لما في الإصحاح التاسع والعشرين من كتاب أرميا «وصلُّوا لأجلها إلى الرب لأنه بسلامها يكون لكم سلام»‏.‏ وفي الإصحاح الحادي والثلاثين «يقول الرب أزرعُ بيت إسرائيل وبيتَ يَهوذا ويكون كما سهرِتُ عليهم للاقتلاع والهدم والقَرض والإهلاك، كذلك أسْهَر عليهم للبناء والغرس في تلك الأيام لا يقولون‏:‏ الآباء أكلوا حِصْرِماً وأسنان الأبناء ضَرِستْ بل كل واحد يموت بذنبه كل إنسان يأكل الحِصْرِم تَضرِس أسنانُه»‏.‏

ومعنى ‏{‏إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم‏}‏ أننا نرد لكم الكرة لأجل التوبة وتجدد الجيل وقد أصبحتم في حالة نعمة، فإن أحسنتم كان جزاؤكم حسناً وإن أسأتم أسأتم لأنفسكم، فكما أهلكنا مَن قبلكم بذنوبهم فقد أحسنا إليكم بتوبتكم فاحذروا الإساءة كيلا تصيروا إلى مصير مَن قبلكم‏.‏

وإعادة فعل ‏{‏أحسنتم‏}‏ تنويه فلم يقل‏:‏ إن أحسنتم فلأنفسكم‏.‏ وذلك مثل قول الأحوص‏:‏

فإذا تَزول تزول عن مُتخمّط *** تُخشى بوادِره على الأقرانِ

قال أبو الفتح ابن جني في شرح بيت الأحوص في الحماسة‏:‏ إنما جاز أن يقول ‏(‏فإذا تَزولُ تزول‏)‏ لِما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفادة منه الفائدة‏.‏ ومثله قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كم غوينا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 63‏]‏، ولو قال‏:‏ هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم لم يفد القول شيئاً كقولك‏:‏ الذي ضربتهُ ضربتُه‏.‏ وقد كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما أخذناه ‏(‏في الأصل أجزناه‏)‏ غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتُك ا ه‏.‏

والظاهر أن امتناع أبي علي من ذلك في هذه الآية أنه يرى جَواز أن تكون أغويناهم تأكيداً لأغوينا وقوله‏:‏ كما غوينا استئنافاً بيانياً، لأن اسم الموصول مسند إلى مبتدأ وهو اسم الإشارة فتم الكلام بذلك، بخلاف بيت الأحوص ومثال ابن جني‏:‏ الذي ضربته ضربتهُ، فيرجع امتناع أبي علي إلى أن ما أخذه ابن جني غير متعين في الآية تعيُّنَه في بيت الأحوص‏.‏

وأسلوب إعادة الفعل عند إرادة تعلق شيء به أسلوب عربي فصيح يقصد به الاهتمام بذلك الفعل‏.‏ وقد تكرر في القرآن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا بطشتم بطشتم جبارين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 130‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وإذا مروا باللغو مروا كراما‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 72‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم‏}‏ جاء على طريقة التجريد بأن جعلت نفس المحسن كذات يحسن لها‏.‏ فاللام لتعدية فعل ‏{‏أحسنتم‏}‏، يقال‏:‏ أحسنت لفلان‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وإن أسأتم فلها‏}‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏فلها‏}‏ متعلق بفعل محذوف بعد فاء الجواب، تقديره‏:‏ أسأتم لها‏.‏ وليس المجرور بظرف مستقر خبراً عن مبتدأ محذوف يدل عليه فعل ‏{‏أسأتم‏}‏ لأنه لو كان كذلك لقال فعَلَيها، كقوله في سورة ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏ ‏{‏من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها‏}‏

ووجه المخالفة بين أسلوب الآيتين أن آية فصلت ليس فيها تجريد، إذ التقدير فيها‏:‏ فعمله لنفسه وإساءته عليه، فلما كان المقدر اسماً كان المجرور بعده مستقراً غير حرف تعدية، فجرى على ما يقتضيه الإخبار من كون الشيء المخبَر عنه نافعاً فيخبر عنه بمجرور باللام، أو ضاراً يخبر عنه بمجرور ب ‏(‏إلى‏)‏، وأما آية الإسراء ففعل أحسنتم وأسأتم الواقعان في الجوابين مقتضيان التجريد فجاءا على أصل تعديتهما باللام لا لقصد نفع ولا ضر‏.‏

تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏وإن أسأتم فلها‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 7‏]‏، إذ تقدير الكلام فإذا أسأتم وجاء وعدُ المرة الآخرة‏.‏

وقد حصل بهذا التفريع إيجاز بديع قضاءً لِحَقّ التقسيم الأول في قوله‏:‏ ‏{‏فإذا جاء وعد أولاهما‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏، ولِحَقّ إفادة ترتب مجيء وعد الآخرة على الإساءة، ولو عطف بالواو كما هو مقتضى ظاهر التقسيم إلى مرتين فاتت إفادة الترتب والتفرع‏.‏

والآخرة‏}‏ صفة لمحذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏مرتين‏}‏، أي وعد المرة الآخرة‏.‏

وهذا الكلام من بقية ما قضي في الكتاب بدليل تفريعه بالفاء‏.‏

والآخرة ضد الأولى‏.‏

ولاماتُ «ليسوؤوا، وليدخلوا، وليتبروا» للتعليل، وليست للأمر لاتفاق القراءات المشهورة على كسر اللامين الثاني والثالث، ولو كانا لامَيْ أمرٍ لكانَا ساكنين بعد واو العطف، فيتعين أن اللام الأول لام أمر لا لام جر‏.‏ والتقدير فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عباداً لنا ليسوؤا وجوهكم الخ‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، وأبو جعفر، ويعقوب ‏{‏ليسوؤا‏}‏ بضمير الجمع مثل أخواته الأفعاللِ الأربعة‏.‏ والضمائر راجعة إلى محذوف دلّ عليه لام التعليل في قوله‏:‏ ‏{‏ليسوؤا‏}‏ إذ هو متعلق بما دل عليه قوله في ‏{‏وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏، فالتقدير‏:‏ فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عليكم عباداً لنا ليسوؤوا وجوهكم‏.‏ وليست عائدة إلى قوله‏:‏ عبادا لنا‏}‏ المصرح به في قوله‏:‏ ‏{‏فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس شديد‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏، لأن الذين أساؤوا ودخلوا المسجد هذه المرة أمة غير الذين جاسوا خلال الديار حسب شهادة التاريخ وأقوال المفسرين كما سيأتي‏.‏

وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم، وخلف ليسوءَ‏}‏ بالإفراد والضمير لله تعالى‏.‏ وقرأ الكسائي ‏{‏لنَسوء‏}‏ بنون العظمة‏.‏ وتوجيهُ هاتين القراءتين من جهة موافقة رسم المصحف أن الهمزة المفتوحة بعد الواو قد ترسم بصورة ألف،، فالرسم يسمح بقراءة واو الجماعة على أن يكون الألف ألف الفرق وبقراءتي الإفراد على أن الألف علامة الهمزة‏.‏

وضميرا «ليسوءوا وليدخلوا» عائدان إلى ‏{‏عباداً لنا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏ باعتبار لفظه لا باعتبار ما صدق المعاد، على نحو قولهم‏:‏ عندي درهم ونصفه، أي نصف صاحب اسم درهم، وذلك تعويل على القرينة لاقتضاء السياق بُعد الزمن بين المرتين‏:‏ فكان هذا الإضمار من الإيجاز‏.‏

وضمير كما دخلوه‏}‏ عائد إلى العباد المذكور في ذكر المرة الأولى بقرينة اقتضاء المعنى مراجع الضمائر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 9‏]‏، وقول عباس بن مرداس‏:‏

عُدنا ولولا نحن أحدق جمعهم *** بالمسلمين وأحرزوا ما جَمّعوا

فالسياق دال على معاد ‏(‏أحرزوا‏)‏ ومعاد ‏(‏جَمّعوا‏)‏‏.‏

وسَوْء الوجوه‏:‏ جَعْل المساءة عليها، أي تسليط أسباب المساءة والكآبة عليكم حتى تبدو على وجوهكم لأن ما يخالج الإنسان من غم وحزن، أو فرح ومسرة يظهر أثره على الوجه دون غيره من الجسد، كقول الأعشى‏:‏

وأقدِمْ إذا ما أعين الناس تَفْرق ***

أراد إذا ما تفرق الناس وتظهر علامات الفرق في أعينهم‏.‏

ودخول المسجد دخول غزو بقرينة التشبيه في قوله‏:‏ كما دخلوه أول مرة‏}‏ المراد منه قوله‏:‏ ‏{‏فجاسوا خلال الديار‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏‏.‏

والتتبِير‏:‏ الإهلاك والإفساد‏.‏

وما علوا‏}‏ موصول هو مفعول «يتبروا»، وعائد الصلة محذوف لأنه متصل منصوب، والتقدير‏:‏ ما علوه، والعلو علو مجازي وهو الاستيلاء والغلب‏.‏

ولم يعدهم الله في هذه المرة إلا بتوقع الرحمة دون رد الكرة، فكان إيماء إلى أنهم لا مُلك لهم بعد هذه المرة‏.‏ وبهذا تبين أن المشار إليه بهذه المرة الآخرة هو ما اقترفه اليهود من المفاسد والتمرد وقتل الأنبياء والصالحين والاعتداء على عيسى وأتباعه، وقد أنذرهم النبي مَلاّخي في الإصحاحين الثالث والرابع من كتابه وأنذرهم زكرياء ويحيى وعيسى فلم يرعووا فضربهم الله الضربة القاضية بيد الرومان‏.‏

وبيان ذلك‏:‏ أن اليهود بعد أن عادوا إلى أورشليم وجددوا ملكهم ومسجدهم في زمن ‏(‏داريوس‏)‏ وأطلق لهم التصرف في بلادهم التي غلبهم عليها البابليون وكانوا تحت نفوذ مملكة فارس، فمكثوا على ذلك مائتي سنة من سنة 530 إلى سنة 330 قبل المسيح، ثم أخذ ملكهم في الانحلال بهجوم البطالسة ملوك مصر على أورشليم فصاروا تحت سلطانهم إلى سنة 166 قبل المسيح إذ قام قائد من إسرائيل اسمه ‏(‏ميثيا‏)‏ وكان من اللاويين فانتصر لليهود وتولى الأمر عليهم وتسلسل الملك بعده في أبنائه في زمن مليء بالفتن إلى سنة أربعين قبل المسيح‏.‏ دخلت المملكة تحت نفوذ الرومانيين وأقاموا عليها أمراء من اليهود كان أشهرهم ‏(‏هيرودس‏)‏ ثم تمردوا للخروج على الرومانيين، فأرسَل فيصر رومية القائدَ ‏(‏سيسيَانوس‏)‏ مع ابنه القائد ‏(‏طيطوس‏)‏ بالجيوش في حدود سنة أربعين بعد المسيح فخربت أورشليم واحترق المسجد، وأسر ‏(‏طيطوس‏)‏ نيفاً وتسعين ألفاً من اليهود، وقُتل من اليهود في تلك الحروب نحو ألف ألف، ثم استعادوا المدينة وبقي منهم شرذمة قليلة بها إلى أن وافاهم الأمبراطور الروماني ‏(‏أدريانوس‏)‏ فهدمها وخربها ورمى قناطير المِلح على أرضها كيلا تعود صالحة للزراعة، وذلك سنة 135 للمسيح‏.‏ وبذلك انتهى أمر اليهود وانقرض، وتفرقوا في الأرض ولم تخرج أورشليم من حكم الرومان إلا حين فتحها المسلمون في زمن عمر بن الخطاب سنة 16 ه صلحاً مع أهلها وهي تسمى يومئذٍ ‏(‏إيلياء‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإن عدتم عدنا‏}‏ يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة ‏{‏عسى ربكم أن يرحمكم‏}‏ عطفَ الترهيب على الترغيب‏.‏

ويجوز أن تكون معترضة والواو اعتراضية‏.‏ والمعنى‏:‏ بعد أن يرحمكم ربكم ويؤمنكم في البلاد التي تلْجأون إليها، إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى عقابكم، أي عدنا لمثل ما تقدم من عقاب الدنيا‏.‏

وجملة ‏{‏وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً‏}‏ عطف على جملة ‏{‏عسى ربكم أن يرحمكم‏}‏ لإفادة أن ما ذكر قبله من عقاب إنما هو عقاب دنيوي وأن وراءه عقاب الآخرة‏.‏

وفيه معنى التذييل لأن التعريف في ‏{‏للكافرين‏}‏ يعم المخاطبين وغيرهم‏.‏ ويومئ هذا إلى أن عقابهم في الدنيا ليس مقصوراً على ذنوب الكفر بل هو منوط بالإفساد في الأرض وتعدي حدود الشريعة‏.‏ وأما الكفر بتكذيب الرسل فقد حصل في المرة الآخرة فإنهم كذبوا عيسى، وأما في المرة الأولى فلم تأتهم رسل ولكنهم قتلوا الأنبياء مثل أشعياء، وأرمياء، وقتل الأنبياء كفر‏.‏

والحصير‏:‏ المكان الذي يحصر فيه فلا يستطاع الخروج منه، فهو إما فعيل بمعنى فاعل، وإما بمعنى مفعول على تقدير متعلق، أي محصور فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى الغرض الأهم من هذه السورة وهو تأييد النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات والمعجزات، وإيتاؤه الآيات التي أعظمها آية القرآن كما قدمناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتينا موسى الكتاب‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وأعقب ذلك بذكر ما أنزل على بني إسرائيل من الكُتب للهدى والتحذير، وما نالهم من جراء مخالفتهم ما أمرهم الله به، ومن عدولهم عن سَنن أسلافهم من عهد نوح‏.‏ وفي ذلك فائدة التحذير من وقوع المسلمين فيما وقع فيه بنو إسرائيل، وهي الفائدة العظمى من ذكر قصص القرآن، وهي فائدة التاريخ‏.‏

وتأكيد الجملة مراعى فيه حال بعض المخاطبين وهم الذين لم يذعنوا إليه، وحالُ المؤمنين من الاهتمام بهذا الخبر، فالتوكيد مستعمل في معنييه دفع الإنكار والاهتمام، ولا تعارض بين الاعتبارين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هذا القرآن‏}‏ إشارة إلى الحاضر في أذهان الناس من المقدار المنزل من القرآن قبل هذه الآية‏.‏

وبُينت الإشارة بالاسم الواقع بعدها تنويهاً بشأن القرآن‏.‏

وقد جاءت هذه الآية تنفيساً على المؤمنين من أثر القصص المهولة التي قصت عن بني إسرائيل وما حل بهم من البلاء مما يثير في نفوس المسلمين الخشية من أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك، فأخبروا بأن في القرآن ما يعصمهم عن الوقوع فيما وقع فيه بنو إسرائيل إذ هو يهدي للطريق التي هي أقوم مما سلكه بنو إسرائيل، ولذلك ذكر مع الهداية بشارة المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ونذارة الذين لا يؤمنون بالآخرة‏.‏ وفي التعبير ب ‏{‏التي هي أقوم‏}‏ نكتة لطيفة ستأتي‏.‏ وتلك عادة القرآن في تعقيب الرهبة بالرغبة وعكسه‏.‏

و ‏{‏التي هي أقوم‏}‏ صفة لمحذوف دل عليه ‏{‏يهدي‏}‏، أي للطريق التي هي أقوم، لأن الهداية من ملازمات السير والطريق، أو للملة الأقوم، وفي حذف الموصوف من الإيجاز من جهة ومن التفخيم من جهة أخرى ما رجح الحذف على الذكر‏.‏

والأقوم‏:‏ تفضيل القويم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يهدي للتي هي أقوم من هُدى كتاب بني إسرائيل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وجعلناه هدى لبني إسرائيل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2‏]‏‏.‏ ففيه إيماء إلى ضمان سلامة أمة القرآن من الحيدة عن الطريق الأقوم، لأن القرآن جاء بأسلوب من الإرشاد قويم ذي أفنان لا يحول دونه ودون الولوج إلى العقول حَائل، ولا يغادر مسلكاً إلى ناحية من نواحي الأخلاق والطبائع إلا سلكهُ إليها تحريضاً أو تحذيراً، بحيث لا يعدم المتدبر في معانيه اجتناء ثمار أفنانه، وبتلك الأساليب التي لم تبلغها الكتب السابقة كانت الطريقة التي يهدي إلى سلوكها أقومَ من الطرائق الأخرى وإن كانت الغاية المقصود الوصول إليها واحدة‏.‏

وهذا وصف إجمالي لمعنى هدايته إلى التي هي أقوم لو أريد تفصيله لاقتضى أسفاراً، وحسبك مثالاً لذلك أساليب القرآن في سد مسالك الشرك بحيث سلمت هذه الآية في جميع أطوارها من التخليط بين التقديس البشري وبين التمجيد الإلهي، فلم تنزل إلى حضيض الشرك بحال، فمحل التفضيل هو وسائل الوصول إلى الغاية من الحق والصدق، وليس محل التفضيل تلك الغاية حتى يقال‏:‏ إن الحق لا يتفاوت‏.‏

والأجر الكبير فُسر بالجنة، والعذابُ الأليم بجهنم، والأظهر أن يحمل على عموم الأجر والعذاب، فيشمل أجر الدنيا وعذابها، وهو المناسب لما تقدم من سعادة عيش بني إسرائيل وشقائه، فجعل اختلاف الحالين فيهما موعظة لحالي المسلمين والمشركين‏.‏

وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ عطف على ‏{‏أن لهم أجرا كبيرا‏}‏ لأنه من جملة البشارة، إذ المراد بالذين لا يؤمنون بالآخرة مشركو قريش وهم أعداء المؤمنين، فلا جرم أن عذاب العدو بشارة لمن عاداه‏.‏

والاقتصار على هذين الفريقين هو مقتضى المقام لمناسبة تكذيب المشركين بالإسراء فلا غرض في الإعلام بحال أهل الكتاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

موقع هذه الآية هنا غامض، وانتزاع المعنى من نظمها وألفاظها أيضاً، ولم يأت فيها المفسرون بما ينثلج له الصدر‏.‏ والذي يظهر لي أن الآية التي قبلها لما اشتملت على بشارة وإنذار وكان المنذرون إذا سمعوا الوعيد والإنذار يستهزئون به ويقولون‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 48‏]‏ عُطف هذا الكلام على ما سبق تنبيهاً على أن لذلك الوعد أجلاً مسمى‏.‏ فالمراد بالإنسان الإنسان الذي لا يؤمن بالآخرة كما هو في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً‏}‏ و‏{‏أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66 67‏]‏ وإطلاق الإنسان على الكافر كثير في القرآن‏.‏

وفعل يدعو‏}‏ مستعمل في معنى يطلب ويبتغي، كقول لبيد‏:‏

ادْعُو بهن لعَاقر أو مُطْفِل *** بُذِلَت لجيران الجميع لِحَامُها

وقوله‏:‏ ‏{‏دعاءه بالخير‏}‏ مصدر يفيد تشبيهاً، أي يستعجل الشر كاستعجاله الخير، يعني يستبطئ حلول الوعيد كما يستبطئ أحد تأخر خير وعد به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وكان الإنسان عجولاً‏}‏ تذييل، فالإنسان هنا مراد به الجنس لأنه المناسب للتذييل، أي وما هؤلاء الكافرون الذين لا يؤمنون بالآخرة إلا من نوع الإنسان، وفي نوع الإنسان الاستعجال فإن ‏(‏كان‏)‏ تدل على أن اسمها متصف بخبرها اتصافاً متمكناً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

والمقصود من قوله‏:‏ وكان الإنسان عجولاً‏}‏ الكناية عن عدم تبصره وأن الله أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت الأشياء ‏{‏ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 11‏]‏، ولكنه دَرّج لهم وصول الخير والشر لطفاً بهم في الحالين‏.‏

والباء في قوله‏:‏ بالشر وبالخير لتأكيد لصوق العامل بمعموله كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏؛ أو لتضمين مادة الدعاء معنى الاستعجال، فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وعجول‏:‏ صيغة مبالغة في عاجل‏.‏ يقال‏:‏ عجل فهو عاجل وعجول‏.‏

وكتب في المصحف ويدع‏}‏ بدون واو بعد العين إجراء لرسم الكلمة على حالة النطق بها في الوصل كما كتب ‏{‏سَنْدُع الزبانية‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 18‏]‏ ونظائرها‏.‏ قال الفراء‏:‏ لو كتبت بالواو لكان صواباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏ويدع الإنسان بالشر‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 11‏]‏، الخ‏.‏ والمناسبة أن جملة ‏{‏ويدع الإنسان‏}‏ تتضمن أن الإبطاء تأخير الوعد لا يرفعه وأن الاستعجال لا يجدي صاحبه لأن لكل شيء أجلاً، ولما كان الأجل عبارة عن أزمان كان مشتملاً على ليللٍ ونهارٍ متقضّييَنْ‏.‏ وهذا شائع عند الناس في أن الزمان مُتقض وإن طال‏.‏

فلما أريد التنبيه على ذلك أدمج فيه ما هو أهم في العبرة بالزمنين وهو كونهما آيتين على وجود الصانع وعظيم القدرة، وكونهما منتين على الناس، وكون الناس ربما كرهوا الليل لظلمته، واستعجلوا انقضاءه بطلوع الصباح في أقوال الشعراء وغيرهم، ثم بزيادة العبرة في أنهما ضدان، وفي كل منهما آثار النعمة المختلفة وهي نعمة السير في النهار‏.‏ واكتفي بعدِّها عن عدّ نعمة السكون في الليل لظهور ذلك بالمقابلة، وبتلك المقابلة حصلت نعمة العلم بعدد السنين والحساب لأنه لو كان الزمن كله ظلمةً أو كله نوراً لم يحصل التمييز بين أجزائه‏.‏

وفي هذا بعد ذلك كله إيماء إلى ضرب مثل للكُفر والإيمان، وللضلال والهدى، فلذلك عُقب به قوله‏:‏ ‏{‏وآتينا موسى الكتاب‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أعتدنا لهم عذاباً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9 10‏]‏، ولذلك عقب بقوله بعده ‏{‏من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وكل هذا الإدماج تزويد للآية بوافر المعاني شأن بلاغة القرآن وإيجازه‏.‏

وتفريع جملة فمحونا آية الليل‏}‏ اعتراض وقع بالفاء بين جملة ‏{‏وجعلنا الليل والنهار‏}‏ وبين متعلقة وهو ‏{‏لتبتغوا‏}‏‏.‏

وإضافة آية إلى الليل وإلى النهار يجوز أن تكون بيانية، أي الآية التي هي الليل، والآية التي هي النهار‏.‏ ويجوز أن تكون آية الليل الآية الملازمة له وهي القمر، وآية النهار الشمس، فتكون إعادة لفظ ‏(‏آية‏)‏ فيهما تنبيهاً على أن المراد بالآية معنى آخر وتكون الإضافة حقيقيّة، ويصير دليلاً آخر على بديع صنع الله تعالى وتذكيراً بنعمة تكوين هذين الخلقين العظيمين‏.‏ ويكون معنى المحو أن القمر مطموس لا نور في جرمه ولكنه يكتسب الإنارة بانعكاس شعاع الشمس على كُرَتِهِ، ومعنى كون آية النهار مبصرة أن الشمس جعل ضوؤها سببَ إبصار الناس الأشياء، ف ‏{‏مبصرة‏}‏ اسم فاعل ‏(‏أبصر‏)‏ المتعدي، أي جعل غيره باصراً‏.‏ وهذا أدق معنى وأعمق في إعجاز القرآن بلاغة وعلماً فإن هذه حقيقة من علم الهيئة، وما أعيد لفظ ‏(‏آية‏)‏ إلا لأجلها‏.‏

والمحو‏:‏ الطمس‏.‏ وأطلق على انعدام النور، لأن النور يُظهر الأشياء والظلمة لا تظهر فيها الأشياءُ، فشبه اختفاء الأشياء بالمحو كما دل عليه قوله في مقابله‏:‏ ‏{‏وجعلنا آية النهار مبصرة‏}‏، أي جعلنا الظلمة آية وجعلنا سبب الإبصار آية‏.‏ وأطلق وصف ‏{‏مبصرة‏}‏ على النهار على سبيل المجاز العقلي إسناداً للسبب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لتبتغوا فضلا من ربكم‏}‏ عِلة لخصوص آية النهار من قوله‏:‏ ‏{‏آيتن

وجاء التعليل لحكمة آية النهار خاصةً دون ما يقابلها من حكمة الليل لأن المنة بها أوضح، ولأن من التنبه إليها يحصل التنبه إلى ضدها وهو حكمة السكون في الليل، كما قال‏:‏ ‏{‏لتسكنوا فيه والنهار مبصراً‏}‏ كما تقدم في سورة ‏[‏يونس‏:‏ 67‏]‏‏.‏

ثم ذكرت حكمة أخرى حاصلة من كلتا الآيتين‏.‏ وهي حكمة حساب السنين، وهي في آية الليل أظهر لأن جمهور البشر يضبط الشهور والسنين بالليالي، أي حساب القمر‏.‏

والحساب يشمل حساب الأيام والشهور والفصول فعطفه على عدد السنين‏}‏ من عطف العام على الخاص للتعميم بعد ذكر الخاص اهتماماً به‏.‏

وجملة ‏{‏وكل شيء فصلناه تفصيلا‏}‏ تذييل لقوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا الليل والنهار آيتين‏}‏ باعتبار ما سيق له من الإشارة إلى أن للشر والخير الموعود بهما أجلاً ينتهيان إليه‏.‏ والمعنى‏:‏ أن ذلك الأجل محدود في علم الله تعالى لا يعدوه، فلا يقرّبه استعجال ولا يؤخره استبطاء لأن الله قد جعل لكل شيء قدراً لا إبهام فيه ولا شك عنده

أن للخير وللشر مَدى ***

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** فلا تحسبوا ذلك وعداً سُدى‏.‏

والتفصيل‏:‏ التبيين والتمييز وهو مشتق من الفصل بمعنى القطع لأن التبيين يقتضي عدم التباس الشيء بغيره‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتاب أحكمت آياته ثم فُصلت‏}‏ صدر ‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والتفصيل في الأشياء يكون في خلقها، ونظامها، وعلِم الله بها، وإعلامه بها‏.‏ فالتفصيل الذي في علم الله وفي خلقه ونواميس العوالم عام لكل شيء وهو مقتضى العموم هنا‏.‏ وأما ما فصله الله للناس من الأحكام والأخبار فذلك بعض الأشياء، ومنه قوله تعالى‏:‏ يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 97‏]‏‏.‏ وذلك بالتبليغ على ألسنة الرسل وبما خلق في الناس من إدراك العقول، ومن جملة ما فصله للناس الإرشاد إلى التوحيد وصالح الأعمال والإنذار على العصيان‏.‏ وفي هذا تعريض بالتهديد‏.‏

وانتصب كل شيء‏}‏ بفعل مضمر يفسره ‏{‏فصلناه‏}‏ لاشتغال المذكور بضمير مفعول المحذوف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ‏(‏13‏)‏ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

لما كان سياق الكلام جارياً في طريق الترغيب في العمل الصالح والتحذير من الكفر والسيئات ابتداء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عذاباً أليماً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9 10‏]‏ وما عقبه مما يتعلق بالبشارة والنذارة وما أدمج في خلال ذلك من التذكير ثم بما دل على أن علم الله محيط بكل شيء تفصيلاً، وكان أهم الأشياء في هذا المقام إحاطة علمه بالأعمال كلها، فأعقب ذكر ما فصله الله من الأشياء بالتنبيه على تفصيل أعمال الناس تفصيلاً لا يقبل الشك ولا الإخفاء وهو التفصيل المشابه للتقييد بالكتابة، فعطف قوله‏:‏ ‏{‏وكل إنسان‏}‏ الخ على قوله‏:‏ ‏{‏وكل شيء فصلناه تفصيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏ عطف خاص على عام للاهتمام بهذا الخاص‏.‏ والمعنى‏:‏ وكل إنسان قدرنا له عمله في علمنا فهو عامل به لا محالة وهذا من أحوال الدنيا‏.‏

والطائر‏:‏ أطلق على السهم، أو القرطاس الذي يُعين فيه صاحب الحَظّ في عطاء أو قرعة لقسمة أو أعشار جزور الميسر، يقال‏:‏ اقتسموا الأرض فطار لفلان كذا، ومنه قول أم العَلاء الأنصارية في حديث الهجرة‏:‏ اقتسم الأنصارُ المهاجرين فطار لنا عُثمان بن مظعون‏.‏‏.‏‏.‏ وذكرت قصة وفاته‏.‏

وأصل إطلاق الطائر على هذا‏:‏ إما لأنهم كانوا يرمون السهام المرقومة بأسماء المتقاسمين على صبر الشيء المقسوم المعدة للتوزيع‏.‏ فكل من وقع السهم المرقوم باسمه على شيء أخذَه‏.‏ وكانوا يطلقون على رمي السهم فعل الطيران لأنهم يجعلون للسهم ريشاً في قُذذه ليخف به اختراقه الهواء عند رميه من القوس، فالطائر هنا أطلق على الحظ من العمل مثل ما يطلق اسم السهم على حظ الإنسان من شيء ما‏.‏

وإما من زجر الطير لمعرفة بختتِ أو شُؤم الزاجر من حالة الطير التي تعترضه في طريقه، والأكثر أن يفعلوا ذلك في أسفارهم، وشاع ذلك في الكلام فأطلق الطائر على حظ الإنسان من خير أو شر‏.‏

والإلزام‏:‏ جعله لازماً له، أي غير مفارق، يقال‏:‏ لَزمه إذا لم يفارقه‏.‏

وقوله‏:‏ في عُنُقِهِ‏}‏ يجوز أن يكون كناية عن الملازمة والقرب، أي عمله لازم له لزوم القلادة‏.‏ ومنه قول العرب تقلدها طَوْقَ الحمامة، فلذلك خصت بالعنق لأن القلادة توضع في عنق المرأة‏.‏ ومنه قول الأعشى

والشِعْرَ قلدتُه سَلامَةَ ذَا فا *** ئش والشيءُ حيثما جُعلا

ويحتمل أن يكون تمثيلاً لحالة لعلها كانت معروفة عند العرب وهي وضع علامات تعلق في الرقاب للذين يعيّنون لعمل ما أو ليؤخذ منهم شيء، وقد كان في الإسلام يجعل ذلك لأهل الذمة، كما قال بشار

كَتب الحبُّ لها في عُنقي *** مَوْضِعَ الخَاتم من أهله الذِمم

ويجوز أن يكون ‏{‏في عنقه‏}‏ تمثيلاً بالبعير الذي يوسم في عنقه بسمة كيلا يختلط بغيره، أو الذي يوضع في عنقه جلجل لكيلا يضل عن صاحبه‏.‏

والمعنى على الجميع أن كل إنسان يعامل بعمله من خير أو شر لا يُنقص له منه شيء‏.‏ وهذا غير كتابة الأعمال التي ستذكر عقب هذا بقوله‏:‏ ‏{‏ونخرج له يوم القيامة كتاباً‏}‏ الآية‏.‏

وعَطف جملة ‏{‏ونخرج له يوم القيامة كتاباً‏}‏ إخبار عن كون تلك الأعمال المعبر عنها بالطائر تظهر يوم القيامة مفصلة معينة لا تغادَر منها صغيرةٌ ولا كبيرة إلا أحصيت للجزاء عليها‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ونخرج‏}‏ بنون العظمة وبكسر الراء، وقرأه يعقوب بياء الغيبة وكسر الراء، والضمير عائد إلى الله المعلوم من المقام، وهو التفات‏.‏ وقرأه أبو جعفر بياء الغيبة في أوله مبنياً للنائب على أن ‏{‏له‏}‏ نائب فاعل و‏{‏وكتاباً‏}‏ منصوباً على المفعولية وذلك جائز‏.‏

والكتاب‏:‏ ما فيه ذكر الأعمال وإحصاؤها‏.‏ والنشر‏:‏ ضد الطي‏.‏

ومعنى ‏{‏يلقاه‏}‏ يجده‏.‏ استعير فعل يلقى لمعنى يَجد تشبيهاً لوجدان النسبة بلقاء الشخص‏.‏ والنشر كناية عن سرعة اطلاعه على جميع ما عمله بحيث إن الكتاب يحضر من قبل وصُول صاحبه مفتوحاً للمطالعة‏.‏

وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر ‏{‏يُلَقّاه بضم الياء وتشديد، القاف مبنياً للمجهول على أنه مضاعف لقي تضعيفاً للتعدية، أي يجعله لاقياً كقوله‏:‏ ‏{‏ولقاهم نضرة وسروراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وأسند إلى المفعول بمعنى يجعله لاقياً‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وما يلقاها إلا الذين صبروا‏}‏ ‏[‏فصّلت‏:‏ 35‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويلقون فيها تحية وسلاما‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 75‏]‏‏.‏

ونشر الكتاب إظهاره ليقرأ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا الصحف نشرت‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وجملة اقرأ كتابك‏}‏ مقول قول محذوف دل عليه السياق‏.‏

والأمر في ‏{‏اقرأ‏}‏ مستعمل في التسخير ومكنى به عن الإعذار لهم والاحتجاج عليهم كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏، ولذلك كان معرفة تلك الأعمال من ذلك الكتاب حاصلة للقارئ‏.‏

والقراءة‏:‏ مستعملة في معرفة ما أثبت للإنسان من الأعمال أو في فهم النقوش المخصوصة إن كانت هنالك نقوش وهي خوارق عادات‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بنفسك‏}‏ مزيدة للتأكيد داخلة على فاعل ‏{‏كفى‏}‏ كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله شهيدا‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏‏.‏

وانتصب ‏{‏حسيباً‏}‏ على التمييز لنسبة الكفاية إلى النفس، أي من جهة حسيب‏.‏ والحسيب‏:‏ فعيل بمعنى فاعل مثل ضريب القداح بمعنى ضاربها، وصريم بمعنى صارم، أي الحاسب والضابط‏.‏ وكثر ورود التمييز بعد ‏(‏كفى بكذا‏)‏‏.‏

وعدي ب ‏(‏على‏)‏ لتضمينه معنى الشهيد‏.‏ وما صدق النفس هو الإنسان في قوله‏:‏ ‏{‏وكل إنسان ألزمناه طائره‏}‏ فلذلك جاء ‏{‏حسيباً‏}‏ بصيغة التذكير‏.‏